الثلاثاء، 8 يونيو 2021

إذا انتهت الرأسمالية سينتهي المشروع الحداثي**الحداثة الفائقة*********

 أكثر موضوع نال ما ناله من البحث والتفكير والتفكيك والمقاربة هو “الحداثة”، نظرا إلى أنه عنوان القرن العشرين وما يليه، والصانع الحقيقي للواقع الذي نعيشه اليوم، لكن الحداثة ليس لها وجه واحد، وإن كان هذا مصدر قوتها وتجددها وولادة مفاهيم أخرى من رحمها مثل ما بعد الحداثة، فإنه مثل أقنعة يتخفى خلفها رأس المال ويطوعها بشكل مذهل ما جعلهما مقترنين.

 الكتاب “الحداثة الأوروبية مسارات التفكك ونهاية الريادة” للباحث التونسي مصطفى بن تمسك تقصّد رصد مراحل تفكّك الحداثة الأوروبية تحديدا ومن داخل سياقاتها الذاتية.

بقدر ما تترسّخ أقدام الحداثة والتحديث في العالم الغربي برأسيه: الأوروبي والأنجلوسكسوني، تتسع بالتوازي رقعة الحروب وتتعمّق التفاوتات والفجوات التقنية والاقتصادية والرقمية بين “شعوب–المركز” و”شعوب–الأطراف”. ويكاد كلّ هذا التقدم الدوّار أن يؤول إلى عنوان واحد: السباق نحو التسلّح النووي والسيطرة على الفضاء.

انحراف المسار

ينبش كتاب “الحداثة الأوروبية مسارات التفكك ونهاية الريادة”، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود في مسارات الحداثة الأوروبية، وتقليب أطوارها ومختلف تحولاتها،
 الحداثة في الطور العولمي الراهن، والإجابة عن السؤال الآتي: هل ما زال من المشروع للغربيين أن يتكلّموا عن الحداثة بعد موجات التشكيك والتظنّن في أسسها؟ وهل ما زلنا -نحن العرب- نحلم باستزراع النموذج الحداثي المتهاوي هذا في تربتنا، بعد كلّ التجارب التعسفية الفاشلة؟ ثمّ هل من المشروع أن نتعامل مع الحداثة تعاملا انفصاميا
يؤكد بن تمسك أنّ الحداثة في نسختها الغربية، لم تحقق ما وعدت به إنسانيتها الغربية أولا والكونية ثانيا من وعود في نيل السعادة الدنيوية، فبقدر ما تراكمت الأشياء والمصنوعات، تضاءل عالم الإنسان، حتى أنّ إنسان الحداثة المتأخرة، بعد أن اختبر خواء المعنى وفراغ المبنى في ما يتّصل بمنجزات الحداثة والتحديث، وبعد أن استبطن مدى اغترابه عن ذاته، وهو يلهو بآخر المصنوعات التكنولوجية، عاد يبحث عن المعنى في التعبيرات الروحانية والطقوسية والسحرية التي كان قد تخلّى عنها لقاء وعود الحداثة بالسعادة الدنيوية؛ إنّها حالة القنوط التي أصابت وعي الإنسان الحداثي بالانفصام، وكأنّ الحداثة لم تكن مشروعه؛ بل عدوّه. فكلّ منجزاتها كانت تنطلق من مركز الذات والذاتية لتعود إليهما. وهل كانت الحداثة ممكنة، دون اكتشاف الذاتية، وتنصيبها مركزا بديلا للوجود والميتافيزيقا والألوهية؟
الحداثة أضحت في قبضة سادة المال والأعمال حتى أنهم وضعوا أيديهم الطولى على مراكز العلم والعلماء
ويضيف أن الذاتية حملت مشروع الحداثة على كاهلها بوصفها مركز العالم والحياة والموت، وتخلّت عن إحداثيات الأمان الأنطولوجية والماورائية، لقاء الظفر بذاتها، لكنّها سرعان ما ستستفيق من أوهام التمركز حول الذات، حين تكتشف أنّ مشروع الحداثة، الذي توهّم الفلاسفة المؤسسون أنّه مأثرة الذاتية بإطلاق، سينحرف عن مساره، ليتحالف مع السلطات الوضعية الجديدة، ويتخلّى نهائيا عن الذاتية.
 السرعة المباغتة من انزياح لمركزية الذات، وحلول مركزيات سلطوية ميكروفيزيائية “سلطة المؤسسات والقوانين والسوق والدولة-الأمة والهوية الوطنية… إلخ”، فجّر سيلا عارما من النقد والاحتجاجات الرافضة لهذا الانقلاب الداخلي الذي قادته البرجوازية الصناعية والمالية في منتصف القرن التاسع عشر. وبعد أن عبّد لها الفلاسفة المؤسسون الطريق للسيادة على العالم والطبيعة والمجتمع، من خلال تشكيل ملامح ذات مريدة ومفكرة ومقتدرة، يدور حولها العالم، تُدير البرجوازية الصاعدة لهم الظهر ولا تتوانى، في سبيل تنمية سلطانها وانتشارها، في اتخاذ الإنسان المفكّر ذاته وسيلة استعمالية لغاياتها الربحية.
ويلفت إلى أن الحداثة لقد أضحت في قبضة سادة المال والأعمال، حتى وضعوا أيديهم الطولى على مراكز العلم والعلماء؛ بل إنّ التقدم المذهل للعلم والتقنيات مدينٌ لأموال هؤلاء السادة، وتحويلهم المعرفة إلى استثمار ربحيّ غير محدود. وطالما أنّ الحداثة أضحت استثمارا محوره العلم والتقنية اللذان حرّرا الإنسان من عبادة القوى الطبيعية، فمناطها إذا سيكون المال بامتياز.
ولما كان المال مفرّقا غير جامع للأفراد والجماعات، فإنّ الأوفر حظا في تحصيله سيكون الأكثر قدرة على التحكّم في تكييف مسار الحداثة بحسب مخططاته النفعية. وهكذا، سيتولّد الصراع بين من سيوجهون الحداثة إلى وجهتهم، ومن سيتقبلون الأمر الواقع. والمحصّلة أن التطور المتسارع لعالم الأشياء أفرز منظورين للحداثة: الأول لا يرى في الحداثة سوى توسع في رقعة الأسواق، ولا يرى في القوانين والمؤسسات سوى ضامن وحام لهذا الانبساط. في حين يرى المنظور الثاني أنّ أصل الحداثة، مبتدأها ومنتهاها، هو مشروع الذات المفكرة والمريدة، بوصفها مركز العالم، ومن ثَمَّ، كل ما يُنجز يجب أن يكون مرجعه هذه الذات الظافرة.
 ألّا ننخدع بشعارات وأحلام مُنظري العقد الاجتماعي
 الحداثة في نسختها الأميركيّة والعولميّة تواصل التبشير بـ”حضارة الكارثة” ونهاية العالم، من خلال السعي المحموم إلى امتلاك الترسانة النووية، وتشكيل نادي الأقوياء، وتقسيم العالم وفق فائض قوة أعضاء النادي النووي، غير عابئة بالانفصام الذي بات صارخا ومخيفا بين لوائح حقوق الإنسان والشعوب التي ترعاها في أروقة المنظمات العالمية التي تؤويها على أراضيها، ومخططات وضع اليد على منابع الثروات النفطية والغازية أينما وُجِدت في بطن العالم.
آلة الدعاية الغربية نجحت، ولاسيّما الأيديولوجيات المدرسية والثقافية،
 إنتاجات الحداثة الفكرية من ترسيخ المركزية الكونية للعقل الغربي،
 العصر الموصوف بالعولمة
الأيديولوجيا الأحادية المطلقة “أيديولوجيا السوق”، وتنتصر قيم النجاعة والسلعنة بشكل متوحش على قيم التضامن الإنساني.
لماذا تستمر العقلية والثقافة والرأسمالية عموما، وتخترق كلّ الأنشطة الإنسانية بما في ذلك غير القابلة للسلعنة، على غرار الروحانيات وإنتاج الأفكار والآداب والثقافات،
هل يمكن أن نجد تبريرا لهذا الميل الجارف نحو النفعانية في طبيعة الإنسان وغرائزه؟
قوة النظام الرأسمالي تكمن في قدرته الذاتية على تجاوز كلّ النكسات التي كانت تنذر بانهياره، وآخرها الأزمة المالية العالمية سنة 2008،
 في اقترانه العضوي بالحداثة والتحديث. وعليه، يعني القبول بانهياره بالضرورة انهيارَ المشروع الحداثي برمّته، وهو افتراض إمّا أن ينتهي بالإنسانية برمّتها، غربيّة كانت أو شرقية، إلى النكوص نحو الفوضى والمجهولية، وإما أن ينفتح على طور جديد من الوجود الكوكبي تقوده الإنسانية الثائرة والمتضامنة، وتعيد فيه ترتيب النظام الكوني بشكل يحقق العدل والإنصاف والمساواة المفقودة في الوضعية البائدة. وفي تقديرنا، سيكون السيناريو الأول هو الأقرب إلى الواقع والمنطق، باعتبار أنّ المخرج الثاني شبيه باليوتوبيا “السعيدة” التي لم تتهيّأ أسبابها بعد.
 نهاية الرأسمالية ستكون مقترنة عضويا بنهاية المشروع الحداثي،
 حداثة محايدة، حداثة لا رأسمالية، ولا اشتراكية، ولا إسلامية، حداثة بمنأى عن التجاذبات والتوظيفات الأيديولوجية؛
المثل التنويرية والتحررية المناهضة لكلّ أنماط العبودية والاستبداد، المدافعة عن المساواة الكونية بين البشر بقطع النظر عن كلّ انتماءاتهم. وبهذا المعنى كنّا نظن أنها في عداء مع نظام الرق الرأسمالي ثمّ الاستعماري.
لا نستغرب أن تأفل الحداثة المتعولمة، بعد سلسلة النكسات والانهيارات التي تنذر بهذا المصير المحتوم، وهو ما يعني بالنسبة إلينا نهاية الهيمنة الغربية برأسيها القاري والأطلنطي، وليست “نهاية التاريخ والإنسان” بإطلاق كما يروّج البعض. وفي المقابل سنشهد ميلاد قوى صاعدة وحداثات بديلة قد تعيد الأمل إلى الإنسانية المعذبة وتنقذ عالمنا من الضياع المحدق.
Jun 22, 2020

عصر الحداثة الفائقة

الألفية الثالثة بلغ القلق البشري مداه الأقصى

 علم الاجتماع (فرانسوا آشير، جيل ليبوفتسكي، كلودين هاروش، فريدريك لونوار)... بعصر الحداثة الفائقة l’hyper odernité والذي دخلنا إليه مع بداية الثورة المعلوماتية. إنه عهد الحداثة المفرطة، حداثة السرعة المزدوجة، حيث كل شيء يتغير بشكل عميق وجذري، دون أن نكون قادرين على متابعته واستيعابه فكرياً. نتحدث هنا عن أعمال وأطاريح لفلاسفة وسوسيولوجيين كبار، حاولوا جاهدين رصد المعالم المميزة للوضع البشري في هذا العصر النوعي والخاص. وكأننا لم نحسم بعد القضايا والإشكالات التي أثارتها ما بعد الحداثة، ها هو اتجاه آخر يظهر للوجود، كي يعمق الأسئلة العويصة التي يطرحها عصرنا. لقد دخلنا، إذن، تاريخاً غير مسبوق، يتطلب تحليلاً وفهماً مغايراً للأمور.

ظهرت الحداثة كخطاب حضاري كبير، ينبني على وعود عظيمة بالخلاص البشري، في العلم والسياسة والاقتصاد وغيره. لقد راهنت الحداثة، كما هو معروف، على التقدم، فالنعيم لم نتركه وراءنا، بل بإمكاننا العمل على تحقيقه على الأرض في أفق الفعل البشري. كما راهنت على عقلنة المجتمع بوساطة القوانين ذات الطابع التعاقدي، تحت مظلة الدولة كمؤسسة جاءت نتاجاً للإرادة الحرة للشعب.

وعقلنة النظر إلى الطبيعة أيضاً، عبر اكتشاف القوانين المتحكمة فيها، بدل ربطها بالخوارق. غير أن كل هذه الآمال تحطمت على صخرة الواقع، عندما تحول العلم نحو الغايات التدميرية بدل الإنسانية. وتحولت السياسة لإنتاج أنظمة مغلقة إيديولوجياً، انتهت في نهاية المطاف بحربين عالميتين ذهب ضحيتهما الملايين من البشر. كما تحول الاقتصاد بدوره إلى وسيلة لتفقير الشعوب، وتحويلها إلى مجرد قطيع من المستهلكين. لكل هذه الأسباب أعلنت ما بعد الحداثة خصوصاً ضمن الاتجاه الفرنسي، عن أفول الفلسفة الأنوارية وسقوط «محكياتها الكبرى» كما سماها جان فرانسوا ليوتار.

ثم جاء مفهوم الحداثة الفائقة، ليس من أجل الإعلان عن نهاية عصر الحداثة كما ادعت ما بعد الحداثة. بل لكي تعلن عكس ذلك، عن التطور المفرط، والتفاقم المهول الذي وصلت إليه مبادئ الحداثة الأنوارية، وهو الشيء الذي لم يكن يحلم ببلوغه حتى الأنواريون أنفسهم. كل شيء أصبح متضخماً ومتجاوزاً لكل الحدود. سباق متسارع من أجل التجاوز.. المزيد من الاستهلاك والمزيد من الفرجة والمشهدية، الدفع بكل شيء نحو درجاته القصوى، بما فيه الذات نفسها التي تجاوزت أخلاق العفة والتواضع، كي تصاب بمرض تفخيم الأنا، متوهمة أنها تسيطر على كل شيء، تماماً كما هي قادرة على استحضار كل شيء من الشبكة العنكبوتية فقط بكبسة زر.

الحداثة الفائقة تعري الآمال الأخيرة لما بعد الحداثة، وذلك رغم التداخلات والتقاطعات الموجودة بينهما في استعادة ما تبقى من الوضع البشري الطبيعي، وفي الحفاظ على معاقل الإنسان الأخيرة. لقد ظهر أن ما بعد الحداثة عاجزة عن فهم التحولات العاصفة التي بلغت أوجها مع الثورة المعلوماتية، والهندسة البيولوجية، والتطورات الحاصلة في غزو الفضاء وغيرها من الثورات. يقول جيل ليبفوتسكي بأن عصرنا لا يعكس نهاية الحداثة كما تعلن عن ذلك ما بعد الحداثة، بل بالعكس يسجل عصرنا ظهور حداثة جديدة يطلق عليها تسمية «الحداثة المفرطة» والتي أصبحت تكتسح بشكل متزايد مجتمعاتنا. في كل مكان هناك بحث مستمر عن المزيد، رفع المؤشر نحو الأعلى، تصاعد مستمر في الاستهلاك والاتصال، في المعلومات، التظاهرات الرياضية، والمعارض... وإذن ليست ما بعد الحداثة هي السائدة اليوم، بل الحداثة المتطرفة.

غموض المعنى
تبقى واحدة من أهم مميزات الوضع الحداثي المفرط، الهيمنة الكبيرة التي يمارسها التقدم التقنو/‏‏ علمي،
فسواء في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يهدد الذكاء الطبيعي بإزاحته من عرشه، أو في مجال التطورات المهولة التي وصلت إليها أبحاث الهندسة الجينية، وقدرتها على التدخل لتعديل جينومات الكائنات الحية، ليس فقط بغرض تغيير طبيعتها الداخلية، بل والسعي لإيجاد كائنات جديدة تظهر لأول مرة على سطح الأرض
أصبح البحث عن المعنى مسألة ذاتية يعيشها الإنسان مع قناعاته الخاصة. فإنسان الحداثة الفائقة، يعيش كذلك حيرة فائقة وضياعاً للمعنى، وقد سبق لماكس فيبر أن عبر عن الظاهرة بالمفهوم الشهير: زوال السحر عن العالم Le désenchantement du monde وهو المفهوم ذاته الذي عمقه مارسيل غوشي في كتاب يحمل نفس العنوان. إن ضياع هذا المعنى الكبير للحياة، يترجم أحياناً بنوع من التعطش للانغماس في الملذات الحسية، وبالعناية المرضية بالبحث عن الأحاسيس القوية والاستزادة منها، كما لو أنه يكفي المرء أن يغرق في القشعريرة والخدر كي يكون موجوداً.
التباسات العيش
عصر العولمة والأسواق المفتوحة وانمحاء الحدود الفاصلة بين الثقافات والمجتمعات. عصر الشركات متعددة الجنسية والعابرة للقارات. كل شيء، كل ممارسة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أصبحت مهاجرة عبر الحدود، كما أنها تعرض نفسها في نوع من التضخم والإفراط. هنا يظهر كما لو أن الحداثة نفسها قد بلغت أعلى درجات تحققها القصوى. إن العمليات الاقتصادية داخل البورصة مثلاً، تتم في نوع من السرعة الفائقة. أموال ضخمة تنتقل من جهة إلى أخرى في لمح البصر. تلكم هي نفسها الظاهرة التي وصفها بول فيريليو من خلال مفهوم الدرومولوجيا؛ أي علم السرعة، مؤكداً على أن الإنسان المعاصر قد فقد تماماً الإحساس بالزمان من فرط السرعات المهولة التي يعيشها، سواء على مستوى وسائل النقل أو التواصل، أو تغير الظواهر الاجتماعية. وكما أوضح أيضاً جيل ليبوفتسكي في كتابه «عصر الفراغ» لا يعيش إنسان الحداثة الفائقة سوى الحاضر، فهو لا يهتم إلا بتحقيق ذاته عبر الاستهلاك ومتابعة الجديد، وملازمة آخر صرعات الموضة. يقول: «إن الزمن ما بعد الحداثي هو المرحلة الباردة ومنزوعة الأوهام من الحداثانية على المقاس للمجتمع، وتطوير لبنى سائلة تصاغ وفقاً للفرد ورغباته، وتحييد للصراعات الطبقية، وتبدد للمخيال الثوري، وتنامٍ للامبالاة، ونزع نرجسي للجوهر، وإعادة استثمار بارد للماضي» ص 117.
لقد أصبح الواقع معولماً، بحيث إن كل حدث يقع في أقصى نقطة من المعمور يمكن متابعته بشكل لحظي ومباشر. وكمثال على ذلك، تابع العالم بشكل آني حدث سقوط الأبراج التجارية في نيويورك، وتابع سنوات بعد ذلك بنفس الطريقة الآنية، حدث تصفية بن لادن في مخبئه بباكستان. الحداثة الفائقة هي إذن إفراط في الاستعجال والسرعة والآنية. كل شيء أصبح يفرض نفسه بشكل مستعجل، وينبغي أن يعالج بسرعة، والأفضل أن يتمكن الجميع من متابعة الأمر بشكل لحظي ومتزامن.
هذا الانجراف المميت نحو السرعة والاستعجال، هو أيضاً ما انتقده كارل أونوريه في كتابه: «مديح البطء، حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة» حيث دعا إلى العناية بالتمهل والتؤدة، فبدل هذه الحياة المستعجلة، لم لا يعود الإنسان لإحياء أماسي الاسترخاء، والاستمتاع بالإيقاع الطبيعي للحياة؟!
هكذا إذا كان العالم اليوناني قد بني حول الحق والجمال والفضيلة. وعالم الأزمنة الحديثة تمحور حول العقل والحرية والتقدم، فإن الحداثة المفرطة، وبعد أن قامت بتجاهل القيم الكلاسيكية دفعت بالمبادئ الحداثية نحو تحققها الأقصى، كي تصبح المتعية والفردانية وتقديس العرضي والعابر، والانغماس في الأحاسيس هي الفضائل التي يقوم عليها عصرنا.
إنسان الحداثة الفائقة يعيش في السحب الإلكترونية، غارق في التواصلات الافتراضية المفرطة في تعددها وكثرتها. الثقافة الوحيدة التي تفرض نفسها اليوم كمعيار هي ثقافة العابر واليومي، أو ما أصبح يطلق عليه «البوز» The Buzz. عليك أن تتغير وتقبل التغيير باعتباره السمة المميزة للحاضر. لكن داخل هذا التغير هناك شيء ما يفرض نفسه أكثر من غيره، إنه العناية بالشكل، الإفراط في العناية بالجسد وفي نحته بوساطة الجراحات التجميلية والرياضة والفيتامينات، كي يتطابق مع صورة محددة للجمال، غالباً ما تكون دور الأزياء والموضة قد روجتها، عن طريق الدعايات والملصقات الإشهارية. هذا الهوس الجماعي بالبحث عن الكمال يترك لدى الفرد تمزقات عميقة وآلاماً دفينة، تجسد آلام العيش في الزمن الحاضر، ما دام أن نحت الذات الذي يمارسه لا يتلاءم إطلاقاً مع خصوصيات الذات نفسها، بل هو مسقط عليها انطلاقاً من صورة خارجية. فالشخصية فائقة الحداثة هي أيضاً شخصية تعيش وبشكل فائق دوامة الاضطرابات النفسية والاجتماعية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق