لرصيف22: "كورونا كشف ضحالة مستوى الفهم الديني الحالي للحياة والإنسان"
Apr 22, 2020
أزمة كورونا سيكون لها أثر كبير في تعريف الناس أن الدين وسيلة محدودة جداً لفهم الحياة".
على الدين أن يحضر في تدعيم العلاقة بين الفرد وربه، بينما ينسحب من الحياة الاجتماعية وتنظيمها. أما الأكثر تضرراً، برأيه، فستكون الثقافات والحضارات
كشفت أزمة كورونا عن ضحالة مستوى الفهم الديني الحالي للحياة والعالم والإنسان، ولهذا الأمر نتائجه السلبية الواضحة على الأديان كلها.
سيعرف الناس أن الدين وسيلة محدودة جداً لفهم الحياة، وأن عليه أن يدخل في تدعيم العلاقة بين الفرد وربه، وأن ينسحب من الحياة الاجتماعية وتنظيمها. سينحصر دوره في التوازن النفسي والروحي للأفراد.
التأثير الأكبر سيكون على الثقافات والحضارات في عالمنا اليوم، وعلى مصيرها وإعادة تشكّلها. هناك اليوم صراع حضارات وثقافات محتدم ومشوب بالمنافسة الثقافية والاقتصادية،
نحن في مرحلة معاصرة تعمّ العالم كله وتنفرد الحضارة الحديثة (ذات الجذور الغربية) بدورها العلمي والتكنولوجي والسياسي والاقتصادي بالتأثير، ومركز هذه الحضارة الحديثة هو في أمريكا وأوروبا الغربية بشكل خاص.
الأزمة زحزحت هذا المركز، ووضعته على المحك، كما أنها بعثت الروح في دول خارج المركز وسيستمر هذا حتى يُخلق توازن جديد في القوى العالمية. ربما ستختفي القطبية الأمريكية وتتداعى، وربما سيتقدم العالم دول جديدة خليطة من الشرق والغرب والشمال والجنوب أثبتت قوتها العلمية والاقتصادية، وهو ما يجعل الحضارة الحديثة تصبح حضارة إنسانية فيها توازن أخلاقي أفضل.
ستنتبه الدول كلها إلى أهمية العلم والاقتصاد في صناعة ثقافات معاصرة لكل الدول، وستختفي الحضارات بمعناها القديم والوسيط والحديث ويظهر مفهوم المدنية العالمية الذي يضم ثقافات الدول المرصوصة مثل قطع الموزاييك الملونة مع بعضها وهي الصيغة الأكثر عدلاً من سابقاتها.
لماذا الدين، في مجتمعاتنا، عكس الدين؟ وسأجيب عن ذلك. على مدى القرنين السابقين حين بدأت مجتمعاتنا تتعرف على العلم ومنجزاته، قام المتدينون بسلوك شتى الطرق بوجه العلم وهي:
1.تحريم وتسفيه المنجز العلمي والدعوة لنبذه وعدم التعامل معه. حصل هذا في الكثير من التفاصيل من ظهور أنابيب المياه والحنفية إلى صعود الإنسان إلى القمر. الشعراوي
2.اعتبار المنجز خاصاً بالغربيين الكفار (وهم يصفونهم بالنصارى واليهود)، واعتباره جزءاً من نظامهم (الكافر)، ولذلك على المسلمين ألا يفعلوا الشيء ذاته وينجرّوا للمساهمة في الإنجاز العلمي وإلا فإنهم سيرتكبون (ضلالة) ولا بد من القصاص.
3.الانتهازية في التعامل مع المنجز العلمي حيث يقبل به المتدينون ولكنهم يعتبرون من ينجزه "نجِساً وكافراً".
4.الادعاء بأن أي منجز جديد هو موجود في القرآن أو في الأحاديث، وأننا لم نقرأ تراثنا بشكل جيد لنكتشف ما اكتشفوه، وأنهم قرأوا كتبنا فاكتشفوا ما لم نكتشف!
5.الادعاء بأن الله جعل من الغرب الكافر خادماً لنا فهو يكتشف ليخدمنا، وعلينا أن نفهم بأننا فوق مستوى العلم والعمل (قالها رجال الأزهر ذات يوم).
6. عندما تواجه أي رجل دين بمنجزات الغرب يقول لك الإسلام يشجع على العلم والعمل ويضرب لك من النصوص الكثيرة، بحيث يُلجم من يحاوره، وكأن الأمر يُحسم بالكلام والمواعظ، وينسى الفعل الملموس.
هكذا نرى أن الدين يتملص من مواجهة العلم، لسبب بسيط جداً، وهو أن العلوم اليوم باتت مليئة بالتفاصيل التي تحتاج سنيناً وقروناً لمعرفتها وممارستها، وهذا الأمر لا يستطيعه إنسان منصرف للعبادة كل حياته، إنه يهرب، ويريدنا أن نهرب أو ندفن رؤوسنا في الرمال لكي لا نشاهد التفاصيل. العلم يحتاج الدقة والعمل والإطلاع الطويل المثمر، يحتاج الذاكرة والسهر والتعب والانصراف له بطريقة لا يستطيعها الإنسان المتدين.
وسأكون صريحاً أكثر وأقول إن الدين والإيمان لا يحتاجان شيئاً سوى التسليم بما معروف وكفى... العلم ضنى وتعب وعمل وجهد والدين راحة وكسل وأداء طقوس مكررة. ولهذا هما متعاكسان، العلم والدين.
ماذا عن المعتقدات الدينية المتشددة القائمة على توظيف الدين كفزّاعة؟
أؤكد دائماً أن التشدد الديني في طريقه إلى الانتهاء، ليعود الدين بسيطاً عفوياً مقابل تحجيم الأساطير الدينية. وبذلك ينتهي التخويف والترهيب ويتوارى الظلاميون في جحورهم ويكفّون عن مصادرة حياة الناس وعقولهم.
وما السبيل إلى القضاء على الكهنوت الديني؟ بكلمات أخرى، متى يقبل هؤلاء إعمال الفكر؟
العلمُ يمكنه أن يحلّ كل شيء، ومثلما استبدلنا الكتاتيب الدينية بالمدارس، والمدارس الشرعية المغلقة بالجامعات، ومثلما عرفنا العلوم والفنون والعلوم الإنسانية والأدب، فلا بد أن نتعلم دراسة علم الأديان وتاريخ الأديان ومقارنتها.
التعليم الصحيح هو ما سيبني كلّ شيءٍ جديد، وسنصبح أمام مسؤولية اختيار الطريق الصحيح من عدمه، لا بد لنا أن نطالب بحقنا في العلم والتعليم والتنوير.
هل يمكن أن يلعب "تجديد الخطاب الديني" دوراً في ذلك؟
لا أجد ضرورة للإصلاح الديني، وعلى من يودون القيام به ترك الدين للناس بسيطاً عفوياً كما كان. هذا هو أفضل إصلاح ديني. عليهم التخلي عن تكفير الناس وعن مطاردة أفكارهم الحرة التي لا تجرّح بالدين والتي تقترح صيغاً للحياة وحرية الروح والعقل.
الإصلاح الديني في الغرب ترافق مع ثورتين كبيرتين، هما الثورة الاقتصادية التي نقلت المجتمعات من الإقطاعية إلى الرأسمالية، والثورة العلمية التي أنتجت الثورة الصناعية، ونحن لا نملك مثل هذه الثورات.
مع ذلك فقد نتج عن الإصلاح الديني حروب دينية طويلة وبقيت الأمور عالقة لثلاثة قرون بعدها، ولم تُحلّ المشكلة إلا بعد أن أجبر العلمُ الدينَ على التخلي عن قيادة المجتمع، فانفجرت حضارة الغرب وأنتجت أعظم مكنوناتها.
يعني هذا أن الإصلاح الديني حصل مع سيادة العلم والعمل في المجتمعات وليس بإصلاح الخطاب الديني... وهذه مفارقة يجب أن ننتبه لها، وألا نضيّع وقتنا بأمور لا نعرف ما هي نتائجها.
ماذا قصدت حين قلت إن "الأخلاق، وليس الدين، هي أساس الحضارات القديمة"؟
الأخلاق، بمعناها الحضاري الذي أقصده، هي توازن العناصر المادية والثقافية للحضارة، وهذا التوازن لا يعني، بالضرورة، التساوي والتكافؤ. في كل عصر، هناك نوع من الانسجام بين هاتين الكفتين، أقصد أن هناك معادلة خفية عميقة للحضارة تضبط فيها أوتار الجوقة المادية والثقافية لينتج عنها لحناً صافياً عميقاً يلامس أعماق الإنسان ويُلبّي حاجاته المختلف والمتناقضة ، ويصبغ الحضارة بلونه.
الأخلاق هي التوازن والانسجام والهارموني والإيقاع المذهل الذي يجعلنا سعداء ونحن نمارس دورنا في حضارة ما.
الأخلاق في عالمنا العربي، اليوم، مختلّة بسبب صدمة الحضارة الحديثة التي حرّكت فيها الراسب القديم، وبسبب كذب ونفاق الأخلاق الوسيطة التي كان يتبناها وما زال هذا المجتمع. لا يمكن بناء أخلاق جديدة إلا إذا أخرجنا الأخلاق من الحاضنة الدينية ووضعناها في أفقها الرحب، في معناها الحقيقي الذي يشير إلى الضمير الإنسانيّ العميق.
الأخلاق ليست بالخطب والمواعظ والكلام المعسول بل يجب أن تكون ميدانية وعملية أولاً.
وكيف ترى تأثير الحضارات القديمة على ترسيخ فكرة الأديان باعتبارها مرادفاً للأخلاق؟
لم تكن الحضارات القديمة عادلة أخلاقياً حتى نعتبرها مثالاً يُحتذى به، كان فيها الكثير من الاختلال الأخلاقي بلا شك لأنها ميّزت البشر على أساس القومية والعرق والسلطة والمال، وكذلك أخلاق التاريخ الوسيط الجهنمية التي ميّزت البشر على أساس الدين والطوائف.
ما حصل في الحضارة الحديثة في نشأتها الكولونيالية كانت قد اختلت في هذا الطريق ثم في حروبها الكونية المرعبة في القرن العشرين، وهي حروب قومية في أساسها
اليوم نحن نخوض كفاحاً واضحاً ضد النزعات الراديكالية القومية والدينية في الغرب والشرق، ولا بد من تحرير الإنسان من هذا المضيق الخانق، فوجود (الرئيس الأمريكي دونالد) ترامب، مثلاً، يؤزم الموضوع ويجعلنا نتجه نحو عصاب جديد.
الأديان يجب أن يُنظر لها من خلال علم الأديان، سنراها بعين صافية أكثر، وسنضعها في مكانها الطبيعي. ولذلك لا بد من تنشيط الأخلاق الحضارية لتكون بديلاً عن الأخلاق الدينية.
لكن هناك تخوّف من دراسة أو انتشار علم الأديان في البلدان العربية… لماذا؟
برأيي بات الأمر ضرورياً للغاية، إذ لم يعد بالإمكان التغافل عن أهمية هذا العلم الذي يدرس كلّ أديان العالم بطريقة علمية. وأعتقد أن تجاهله في بلداننا العربية يكشف التواطؤ المريب بين السلطات الحاكمة والسلطة الدينية، وهو أمر يثير العجب فعلاً.
قلت سابقاً، وأُعيد ما قلته، الدين موضوعٌ قابل للدرس والفحص العلميّ، وعلينا أن نعرف تاريخ الأديان كلّها، ونحلّل مكونات ديننا وأديان الآخرين بطريقة علمية تتناسب مع تطور العصر.
وأحذر أن غلق الأبواب في وجه علم الأديان سيؤدي إلى تسربه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بطريقة قد تبدو متطرفة ومشوبة بنزعات ملحدة ولا أدرية، لذا فالأفضل التعامل معه بطريقة طبيعية.
وهل تنكر أن علم الأديان ليس يسيراً توصيله إلى العامة؟
لا، علم الأديان كسائر العلوم الإنسانية الأخرى؛ هو مزوّد بجهاز اصطلاحي كبير ونظريات ومناهج علمية، وهذا ما يصعب تبسيطه بشكل مفرط للعامة. فمثلاً، لا يمكننا أن نطالب الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) أن يفعل ذلك رغم أنه أقرب للناس في جوهره. كذلك، لا يمكن أن نطالب علم الاجتماع ولا علم النفس... الأمر يتعلق بكونه علماً له قواعده وطرق تحليله الخاصة.
أمر آخر، باستثناء مؤلفي، لا توجد كتب عن علم الأديان بالعربية، ولا توجد ترجمات وافية ولا حتى في صفوف النخب
هذا الإلغاء الكليّ لعلم الأديان وعدم السعي إلى التخصص به أو نشره لا أحد يعرف سببه.
برغم ذلك، أجد الكثير من نواحي علم الأديان بسيطة قابلة للفهم من قبل العامة، لكن مشكلتنا في عدم وجود مختصين فيه، وهذا ما يترتب عليه قلة المهتمّين بتبسيطه وتوصيله إلى كل الناس.
قلتَ سابقاً إن "الدين سبب شقاء الإنسانية"... هل يمكن توضيح ذلك على ضوء ما نعيشه حالياً؟
الأديان الشمولية، بالذات، سبّبت هذا الشقاء الإنساني عندما حصرت البشر في خنادق عقائدية ورمت نارها على الخنادق التي خارج أرضها. أنا أعتبر أن العصر الوسيط الذي ظهرت فيه الأديان والحضارات الوسيطة، ردة في التحضر البشري، ولهذا نسميها (العصور المظلمة)، ونحن اليوم نحاول إصلاح آثار هذه الردّة.
بكلمات أدق وأوضح، فإن التاريخ الوسيط كان جحيماً وخراباً للإنسان ولا بد من إعادة النظر وفهم ما جرى من خلال مبدأ العنف، وسنكتشف أن العقل البشري اختلّ في هذه المرحلة من التاريخ ومارس جنونه الفوضوي العنيف، ولا بد من توقفه الآن.
لا أقصد بهذا إلغاء الأديان مطلقاً، فالدين ضرورة للبشر، بل يعني النظر فيها من جديد ونقدها بشكل صريح ودون مواربة أو مجاملة ونزع الأشواك منها، أشواك الكراهية والتعصب على وجه التحديد
*
يقول المؤرخ العراقي خزعل الماجدي إن أطروحته في الدكتوراه كانت عن الطب والسحر والأسطورة والدين في وادي الرافدين
المؤرخ العراقي خزعل الماجدي من طليعة الباحثين العرب الذين استطاعوا اجتراح مشروع تاريخي، يرصد سيرة الأديان من زاوية تاريخية محضة، لكن هذا العشق التاريخي لا يتوقف عند حدود الأديان، وإنما يتشعب أكثر فأكثر صوب المعتقدات والأساطير وحضارات ما قبل التاريخ وفنونها وجمالياتها، إلى جانب كتاباته الشعرية والمسرحية، مما جعل مؤلفاته تفوق 90 كتابا متعددة الرؤى والأحلام والمشارب الإبداعية والمنطلقات المنهحية والمعرفية التي تؤسس مسار وعيه بالكتابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق