Mar 8, 2021
"أنا حرّ وسوف أحيا حياتي كما أريد"، تُرى هل ندرك أو نعني ما نقول حقا، أم أنها مجرد أمنيات وتطلعات وأشواق إلى الانعتاق من القيود، تلك المتمثلة في كل أشكال السلطة من أبوية ودينية وسياسية ومجتمعية القيود الباهظة التي تحدّد مسار حياتنا منذ اللحظة الأولى، فتكبلنا بمجموعة قوانين وقواعد ومفاهيم وأعراف وأنماط، تتخلل تركيبتنا النفسية، وتستقر في لا وعينا باعتبارها قيما عليا، علينا السعي إلى بلوغها، كي نحصل على الإقرار والقبول ضمن الجماعة التي لا تتوانى عن لفظنا أفرادا غير مرغوب بهم خارجين عن المألوف. عندها لا نملك سوى الانصياع لشروطها التوفيقية المهادنة على حساب حقيقتنا وجوهرنا ورغبتنا في الخلاص من سطوتها، والتمسّك بفرديتنا وتفرّدنا ورفضنا هيمنة السائد المتفق عليه. في هذه الحالة، قد يتم التشكيك حتى في سلامة مداركنا العقلية.
لعل الجنون هو المبرّر الوحيد المقبول عرفا لاستحقاق الحرية، بمعناها المطلق غير القابل للمساءلة، وكثيرا ما اتُّهم عبر التاريخ شعراء وفلاسفة ومفكرون وعلماء ومخترعون بالإصابة بالجنون، وقد زجّ بعضهم في مصحات الأمراض العقلية، لأنهم عبّروا بكل صدق، وبدون ضوابط أو محاذير عن دواخلهم من مشاعر ومواقف وأفكار، فأثروا الإنسانية بإبداعاتهم التي بعثها وعيٌ منفلتٌ وإحساسٌ حقيقيٌّ بالحرية وقدرة استثنائية على التعبير عن ذواتهم من دون حسابات، لمطابقة صورتهم للمتوقع والمفترض والمقبول، مضحّين في ذلك كله في مقابل تحقيق الانسجام مع أنفسهم من دون نفاق أو مجاملة أو مواربة، هؤلاء الذين نطلق عليهم صفة مجانين هم من أحدثوا الاختلاف، وساروا بالبشرية إلى حيث التطور والإنجاز، وهم وحدهم من دفعوا الثمن باهظا.
الحرية كما يعرّفها علم النفس هي تحرّر من القيود والخوف والعوز، وهي إذا ما جرّدناها من بعدها الرومانسي الجمالي جوهر السعادة ومضمونها، بل هي من أهم دوافع الحياة التي تفقد المعنى، في حال عدم توفرها شرطا أساسيا لجدوى الوجود، وهي حافزٌ أساسي للمعرفة والتنوير والإبداع والجمال، وهي قوة دافعة لتحريك أفراد المجتمع وتفجير طاقاته. يرى عالم النفس والفيلسوف الألماني، إريك فروم، أن للإنسان القدرة على التحكّم في حياته وتوجيهها، وأن من يتبعون مبدأ الحتمية يتنازلون طوعا عن حرّيتهم، وبمحض إرادتهم. من هنا، يثور السؤال الوجودي الموجع حول حقيقة حريتنا؛ هل يكفي أن نمتلك وثائق سفر، وأن نقرّر طبيعة عملنا ودراستنا ورفاق الحياة الذين نختارهم ونوعية الأطعمة التي نفضلها، وأي طقسٍ يعجبنا أكثر كي نطلق على أنفسنا صفة أحرار؟
*
يبدو الحديث عن الجنون والمجانين أكثر حاجة اليوم من أي وقت آخر، والزمن توقف وتحول الجمع إلى الصمت أو العقل الجمعي الخائف والمتوجس كثيرا والرافض لأي تمرد على السائد والقابل بالذل بأشكاله والتسميات الحداثية له، وتزداد الحاجة لنبش المكنون وإعادة الاعتبار للجنون حتى لا تحولنا الجائحة الى قطيع يحمل صفة بشر وتجردنا من كل متع الحياة لشدة خوفنا من الموت.
ألم يصف كثيرون عشاق الحرية والعدالة بالمجانين، هذا إن لم يتطور الوصف ويصبحوا "خونة" للوطن أو العشيرة أو الأمة، حتى أصبح أكثر عقلاء هذه الأمة هم مجانينها، فعليكم بالجنون لأن قليلاً منه ينعش القلب وكثيراً منه يبقي على البهجة المتسربة من شقوق جدران العقلاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق