Apr 18, 2020
الثنائيات القاتلة
منذ أفلاطون أهمية أساسية للمفاهيم والاشتغال عليها، نظرا إلى ما ينشأ عن تعدد المعاني للكلمة الواحدة من سوء تفاهم أو مغالطات سفسطائية مقصودة،
حيث خصص أفلاطون عدة محاورات لتحديد مفاهيم مثل العدالة والنفس والوجود وغيرها، وهو الأمر نفسه الذي دفع أرسطو بعده إلى إحصاء المغالطات المتعلقة بالألفاظ واستعمالاتها في كتابه "الدحوضات السفسطائية".
الباحث المغربي خالد كلبوسي - كذلك مؤلفات تعنى بدلالات الألفاظ المنطقية والفلسفية، يمكن أن نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الفارابي في كتابه "الحروف" والغزالي في كتابه "معيار العلم". رب أمر بمثل هذه الأهمية جعل فيلسوفا معاصرا مثل جيل دلوز يعرف الفلسفة نفسها بكونها "إبداع للمفاهيم". في هذا السياق، يمثل الاشتغال الفلسفي على معنى الهوية أهمية كبرى في التفكير الفلسفي ولا سيما في العصر الراهن، إذ هو لفظ متعدد الاستعمالات، مثقل بالدلالات، يستخدم في المنطق والميتافيزيقا والعلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع، وحتى في الخطاب السياسي والإعلامي.
ثنائيات العقل العربي
لا يزال العقل العربي محصوراً بين ثنائيات فكرية جدلية عديدة ساهمت، بشكل أو بآخر، في تأزّم هذا العقل، وعدم قدرته على تجاوز هذه الثنائيات. ولعل أشهر هذه الثنائيات هي ثنائية أبو حامد الغزالي وابن رشد، والتي تبدو كما لو كانت حاكمةً لمنهج البحث العقلي في العالم العربي، على الرغم من انقضاء قرون على ذاك الجدل الفكري والفلسفي الشهير الذي دار بين الرَجليْن، فالعقل العربي والإسلامي يتعاطى مع قضايا كثيرة مطروحة عليه قديماً وحديثاً، منقسماً بين منهج النقل والتفسير والاستناد إلى الأدلة النصيّة من جهة، ومنهج التأويل وإعمال العقل فى تفسير النصوص والحوادث التاريخية من جهة أخرى.
وتبدو ثنائية الغزالي – ابن رشد كما لو كانت تجسيداً لثنائياتٍ أخرى كثيرة، راجت منذ القرن الخامس وحتى القرن السابع الهجرييْن (بين العاشر والثاني عشر الميلادي)، منها، على سبيل المثال، ثنائية ابن سينا – الشهرستاني وثنائية فخر الدين الرازي – نصير الدين الطوسي.. إلخ. وعلى منوال هذه الثنائيات، تطورت وتشعّبت المدارس الفكرية (الكلامية) والسياسية التي حملْت فى ثناياها بذور هذا الانقسام المنهجي في النظر للنصوص، والتعاطي مع حوادث الدهر.
الثنائيات قد توارت قليلاً خلال القرون الأربعة التي حكمت فيها الدولة العثمانية، فيما بدا أنه غلبة لمصلحة المنهج الغزالي (الأشعري) على حسابه نظيره الرشدي (المعتزلي أو الفلسفي)، إلا أنها قد ظهرت مجدّداً أواخر القرن التاسع عشر، بعد الصدمة المعرفية والحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر، نتيجة الانغلاق والجمود الذي دفن المجتمعات الإسلامية أربعة قرون، فظهرت ثنائية رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي – جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبعدها بقليل ثنائية رشيد رضا - علي عبد الرازق. وهنا انتقلت الثنائية من الحيز الفكري (الكلامي) إلى الفضاء السياسي، واستمرت حتى نهاية القرن العشرين الذي شهد ضمور تيار ابن رشد، وربما اختفاءه، لمصلحة سيطرة وهيمنة التيار الغزالي الذي اكتسح الساحة العربية، وذلك حسبما يرى باحثون ومفكّرون عرب عديدون.
لا ننكر أنه، خلال العقود الثلاثة الماضية، بذلت محاولات عديدة لتفكيك هذه الثنائية المتوالدة، أبرزها محاولات محمد عبد الجابري، والذي أخذ على عاتقه مسؤولية البحث فى خبايا هذه الثنائية الصراعية، الممتدة عبر القرون الإسلامية الوسيطة، وأسرارها. أو كما فعل المفكر المصري حسن حنفي. وكلاهما يُحسب له البحث عن صيغةٍ وسطيةٍ ابتعدت عن الانحياز الصارم لأي طرف، وتحسبّت للوقوع فى فخ الأدلجة والتمذهب العقائدي. تقابلها محاولات أكثر جرأة فى نقد هذه الثنائية، ولكن مع الانحياز لأحد الطرفين مقابل الآخر، أبرزها محاولات محمد أركون ونصر حامد أبو زيد.
*
انشغال الفكر العربي الحديث، بثنائيات العقل والإيمان، العلم والدين والتراث والمعاصرة، الدين والقومية، القومية والقطرية، العدل والحرية، الرأسمالية والاشتراكية، الشرق والغرب، القديم والجديد.
غياب المنهجية النظرية الواضحة، التي تجيب على أسئلة الواقع العربي الراهن، وتخرج من إسار هذه الثنائيات.
المجتمع حينما يعجز عن الوصول إلى حل ناجع لمشاكله، فإنه يبحث في ثنائية نظرية، يقيم بينهما التعارض، وينشغل في فك اللغز الذي صنعه بنفسه. فالتناقض بين ثنائة الدين والقومية، لم تكن موجودة إلا في ذهن النخبة التي ضخمت هذه المشكلة في ظروف معينة. وأخذت تكتب وتصيغ الحلول والمعالجات لهذا التناقض الموهوم.
المواطن العربي العادي، لم يشعر في أي يوم من الأيام، يتناقض بين قوميته وقطريته، بين عروبته ووطنيته، فعجز النخبة عن معالجة إشكالية الواقع الحقيقية، هو الذي دفعها إلى التعاطي مع هذه العناوين، وكأنها عناوين متناقضة مع بعضها البعض، لا يمكن الجمع بينهما، وإنما لا بد من المقايضة بين هذه العناوين.
أوليات الواقع .. إذ أن غياب هذا الوعي، هو الذي يدخل الساحة في صراعات وانشغالات ليست ذات أولوية، فالمجتمع الذي يعاني من التخلف الشامل،
التلفيقية هي الظاهرة التي ينبغي تشخيصها في الواقع العربي. لأنها تشكل أخطر نزعة فكرية.
التغلب على التخلف في واقعنا الخاص والعام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق