Sep 27, 2020 Aug 17, 2021
المثقف العضوي، تعبير استخدمه لأول مرة، المفكر الإيطالي الماركسي 1937 أنطونيو غرامشي، رأى من خلال تعريفه أن ما يميز المثقف، أنه بما يمتلكه من علم ومعرفة، يمثل حالة متقدمة في الوعي، ضمن المجتمع الذي يعيش فيه. إن وعيه المتقدم على أفراد مجتمعه، يحمله باستمرار، مسؤولية تاريخية، تتمثل في الإسهام، في تجديد الفكر، بما يخدم مشروع التقدم والنهضة في بلاده. ذلك يعني أن دور المثقف هو عدم الانكفاء، والتشرنق بالأبراج العالية، بعيداً عن مجتمعه وآماله وتطلعاته، وأيضاً عن موروث هذا المجتمع والتقاليد والأعراف التي صنعت تاريخه.
المثقف باعتباره ضمير وطنه، أن يتقدم على المجتمع الذي هو جزء من مكوناته، وفي نفس الوقت، يبقي التواصل والجسور مفتوحة بينه وبين هذا المجتمع وثقافاته. وإذا لم يوفق المثقف في تحقيق هذه المعادلة، فإن النتيجة هي عزلته، وعندها يكون كمن يخاطب نفسه، ولا يحقق أي فعل، أو حتى صدى، فيما يطرحه من أفكار.
إن غرامشي لا يكتفي بهذه الدعوة للمثقف العضوي، وإنما يطلب منه أيضاً التواضع، وعدم المنة، وألا يعتقد أن تقدمه في الوعي، يمنحه أفضلية، في المكاسب أو المغانم. ولذلك يحذر بشكل صريح،
من وجهة النظر هذه، فإن أي ثقافة خارج دائرة الالتزام بهموم الناس وقضاياهم، هي ترف فكري محض. وهنا نجيز لأنفسنا الاختلاف مع غرامشي، لأن المثقف كما نراه، ينبغي ألا يقحم نفسه في التفاصيل اليومية في مجتمعه. فالقراءة الدقيقة، لواقع المجتمع لا تشترط، الانهماك في التفاصيل الصغيرة، وإنما تنطلق من تقديم قراءات وتحليلات استراتيجية، لبنية المجتمع، والعناصر التي تساهم في تقدم المجتمع ونمائه. وفي كل الأحوال، فإن نجاح المثقف رهن بقبول الآخرين، لأفكاره. فهو في المبتدأ والخبر، لا يكتب لنفسه، وإنما يكتب للآخرين. ويدخل في هذا التصنيف، كل مجالات الأنشطة الإبداعية، من فكر وثقافات وفنون، وما إلى ذلك من أنشطة.
الاختلاف هو سنة الكون، والمثقف، هو نتاج المجتمع الذي يعيش فيه. وفي الغالب لا يوجد فينا فرد ليس لديه انحياز لمجتمع أو فكرة أو موقف، لكن دور المثقف هو أكبر من أن ينحاز إلى المواقف الضيقة. المهم أن يعي الثوابت الوطنية، التي يشكل خدشها إضراراً بالمجتمع، واهتزازاً لاستقراره. إن على المثقف أن يكون قريباً باستمرار من الرأي العام، لكن ليس لدرجة التسليم بالخيالات والأوهام، التي تعشعش في كثير من المجتمعات، التي لا تزال في طور التطور والنهوض. والمثقف إن تخلى عن دوره في أخذ المجتمع إلى الحالة المتقدمة في الوعي، التي تمكن من حيازتها، يفقد وظيفته كمثقف. وبذلك تتحقق عزلته، عن مجتمعه، وعندها لا تساوي كتاباته، قيمة الحبر المسكوب فيها.
أصحاب المصالح، وهذه الكتلة هي في حقيقتها استمرار ودعم للسلطة القائمة، وتمارس دعم ما هو قائم بطرق ناعمة، لا يستثني منها عملية غسل الأدمغة.
نحن بإمكاننا بالتأكيد، تحديد الثوابت الوطنية، ومن ضمنها الحفاظ على وحدة الوطن وأمنه واستقراره، وتحقيق التقدم والرخاء لأبنائه. وأن نكون جزءاً فاعلاً في العصر الكوني الذي نحياه، بحيث لا نكون على هامش التاريخ، أو من المتسكعين عند بواباته. وهنا يكون القياس واضحاً، بمن يلتزم بتلك الثوابت، نعتبره مثقفاً عضوياً.
على سبيل المثال، اعتبار من يروج للطائفية وللفرقة والعنصرية، أو يخدش وحدة الوطن، أو يساند التطرف، أو من ينطلق من تعصب أيديولوجي وجهوي، في خانة المثقف العضوي. وليس من شك فليس هناك من تشخيص لكل من يستثمر قلمه، للإضرار بمصالح الناس، ولتعكير وحدة مجتمعه سوى أنه شخص سلبي، ومؤذ في سلوكه ورؤاه.
من هو المثقف العضوي؟.. قراءة نقدية للشائع حول مفهوم غرامشي
فكثير منا يعتقد بأن مفهوم "المثقف العضوي" مرادف لمفهوم "المثقف المُستقل" الذي لا يقبل الخضوع لأيديولوجيا أو عقيدة معينة سوى ما يتطابق مع رؤى الإنسان الحر و مُتبنياته المعرفية المستندة على معطيات المنطق، إستقرائياً كان أم إستنباطياً، أو في ضوء منطق النقائض، سواء أكان هيجلياً أم ماركسياً.
مفهوم المثقف في ضوء كل تشكلات المنطق هذه شاء أم أبى من تبناها هو مثقف نخبوي
خروج عن نمط الفكير السائد الذي يتماهى فيه "المثقف التقليدي" مع "الحس الجمعي" للطبقة التي هو فيها، الذي صوره البعض أنه يعيش في "برج عاجي"، لكنه يبحث عن وجود مُفتعل يُصور نفسه أنه مُتماهي مع الجمع بكل سذاجاتهم وبساطتهم، كي يضع نفسه بافتعال وصرف مال أنه في مصاف الكل، كي يكون أعلى من الكل، لأنه يُتقن اللعب والمخاتلة وتزييف الواقع، ليصنع له منبراً وسرداقاً يُصفق له المُصفقون ممن ظن أنهم ببساطتهم سُذج يُخدعون، وفعلاً يُخدعون، لرغبة عندهم في تقبل خداع الذات لكسب مال هم به موعودون من سياسي غبي يدعي أنه مُدرك ومعبر عن مُعاناتهم، ولكنه غبي إستغله بُسطاء، وبسطاء لا يقبلون سوى حلب غبي من الأغنياء الذين يرومون صعود المجد بلا تضحية سوى تضحيته بتاريخ صراع الجماعة التي ينتمي إليها وهم بخداعه اللفظي والشعاراتي قابلون ومقتنعون، "الكل يخدع الكل" لا لشيء إلَا لأنه مُخادع كبير، وهم بسطاء بأسى وأقصى ما تصل له البساطة ولهم حاجة بمال غبي، وربما بما ذكي مُتغابي!!.
بينما تجد "المثقف العضوي" مُغاير لكل تصوراتنا ولكل توجهات الجمهور، لا يقبل أن يستغل سذاجة أحد من الجمهور، ولا يُطبل مع المُطبلين، ولا يُزمر مع المُزمرين. إنه يُغرد خارج سرب الجمع الذي تُحركه العاطفة، ينأى بنفسه عن ملذات العيش في كنف السلاطين والمُستبدين، رافضاً أن يكون أداة أو وسيلة بيد الجماهير المُغيبة، يرغب بأن يكون هو لسانهم الناطق والمعبر الحقيقي عن معاناتهم وصبرهم الجميل والثقيل، لأنه العقل الناطق بإسم هذه الجماعة، وهذا الفهم نجده بيَناً في كتابات علي شريعتي في تمييزه بين "المثقف الأصيل" و "المثقف التقليدي"، فالمثقف الأصيل هو الذي يعي ويعيش مُعاناة الجماهير، هو مُعارض ورافض دوماً لكل ميقف يعيش حياته مُفارقاً لحياة مُجتمعه
فالمثقف المعبر عن طموحات وآمال "البروليتاريا"، مثلاً، عليه أن يعمل بجد وكد وتعب فكري ونظري مُتميز كي تكون هذه الجماعة هي المهيمنة ثقافياً على المشهد السياسي والفكري والاجتماعي، لأنه هي الأحق بالقيادة من غيرها، فـ "الحزب الثوري" طبقاً لمقولات غرامشي هو الحزب الوحيد القادر على تكوين طبقة من "المثقفين العضويين" الذين بإستطاعتهم تحشيد الجماهير كي يكونوا جماعة قادرة على الرفض الحركي للهيمنة الرأسمالية.
ألا يُعيدنا، أو ألا نستطيع من مقاربة وجهة النظر هذه ولو قليلاً مع دعوات ومتبنيات جماعة "الإسلام السياسي" لا سيما "الوهابية" وجماعة الأخوان المسلمين الذين يقولون بـ "الحاكمية"؟، فالحال هو ذات الحال، فجماعة الأخوان المسلمين عن السنة ومن شابههم من دعاة "ولاية الفقيه" عند الشيعة، إنما هم يدعون لوجود مثقف ديني، وهو المقابل الأرجح للمثقف العضوي عند غرامشي، وهذا المثقف الديني هو الذي يُمهد لقيام "حكومة إسلامية"، لأنه هو من لديه المكنة الفكرية والقافية لخلق جماعة حركية تؤمن بقدرتها على قيادة الأمة الإسلامية لما هو أفضل حال من جاهلية نعيشها نحن المسلمين في ظل حكومات لا إسلامية!!، فغرامشي يدعو لقيادة حزبية تقودها "طبقة ثقافية" مهمتها الدعوة لـ "الهيمنة الإشتراكية" بالقوة!!
"المثقف العضوي"، هو مثقف أيديولوجي يشتغل داخل أطر وأسيجة فكرية و "دوغمائية" تفرضها عليه طبيعة وجوده الاجتماعي داخل طبقته. لا يوجد حياد المسيري
"المثقفين التقليديين"، لأنهم يكتبون ويُنظرون للأدب من أجل الأدب، والعلم من أجل العلم، بينما تكون وظيفة "المثقف العضوي" عنده هي وظيفة اجتماعية تقتضي "التغيير"، لكن أي تغيير، إنه تغيير وفق مُعتقد وأيديولوجيا لها مقبولية وتأثير اجتماعي.
د. علي المرهج استاذ فلسفة في العراق
*
المثقف والخبير
Dec 6, 2019
المثقف هو من يهتم بجدية بالقضايا التى تمت بصلة لقيم الوطن والمجتمع والبشرية وبتطورها وبما يتعلق بعمليات تأسيس وإعادة إنتاج المجتمع وبمختلف النشاطات الذهنية للإنسان. أى أن تخصصه عدم التخصص٬ تخصصه هو المقاربة الكلية العابرة لفروع العلوم المختلفة، ليس ضروريا أن يكون المثقف موسوعيا ملما بكل ما يجرى فى شتى المجالات٬ ولكن المهم أن يكون قادرًا على عدم حصر نفسه فى خانة واحدة مهما عظمت أهميتها
الخبير هو من يلم بأسس وآخر تطورات فرع من فروع المعرفة ويشارك فى صنعها٬ ويستطيع أن يبدى رأى الثقات فيها.
الإنتليجنتسيا مشكلة شائكة٬ تعريفها يختلف من مجتمع لآخر ومن حقبة لحقبة٬ وسيكون دائما خلافيا٬ لأن المصطلح ليس محايدا تماما وحماّل أوجه٬ يمكن أن يكون حاملا لمعان إيجابية (طليعة الأمة ومشارك فى صياغة مشروعاتها)، وقد يكون القصد منه سلبيا يشير إلى المسيًّس الذى لا يفهم فى السياسة٬ نستطيع أن نقول مثلا ونحن بصدد الحديث عن مصر إن الإنتليجنتسيا مكونة من أبناء شرائح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة الذين تلقوا تعليما متقدما نسبيا عن ذلك المتاح للعامة٬ فيتصورون أن هذا التعليم هو العلم٬ وأنه يؤهلهم للتحدث فى كل الموضوعات ولقيادة الأمة وتصدرها ويرون فى سياسيى بلدهم جمعا من الجهلاء عديمى الأخلاق٬ ولا يدركون الفروق بين السياسة والدين والأخلاق والعلوم٬ يقعون بسهولة فى شباك النسخ المبسطة للأيديولوجيات العقائدية المتطرفة والضيقة الأفق والمحرفة للواقع والخالقة لعالم بديل متخيل لا وجود له. إنهم إما الحركيون العقائديون أو جنرالات القهاوي.
يتميز عصرنا هذا بتراجع دور المثقفين وبصعود الخبراء وباتساع قاعدة الأنتليجنتسيا٬ والظاهرة عالمية لا ينفرد بها مجتمع. فلنبدأ بتراجع المثقف.
لا يوجد فى مصر مثلا مثقف يستطيع أن يزعم أن له المكانة التى كان يتمتع بها طه حسين أو توفيق الحكيم٬ ولا يوجد فى فرنسا من يستطيع أن يدعى أن حضوره وتأثيره مثل حضور وتأثير سارتر وفوكو.
قد يعود هذا التراجع إلى ازدياد تعقد المجتمعات والظواهر والعلوم٬ تعقيداً يجعل من الصعب الإلمام بملفات ومجالات دون التفرغ لها دون غيرها٬ وقد يفسر بنوعية التعليم الذى نتلقاه فى كل مكان فى العالم حيث حلت الرياضيات والعلوم الطبيعية محل الفلسفة والعلوم الإنسانية واللاهوت أو علم الكلام. مناهج التعليم تحاول أن تيسره وتدرب على القراءة السريعة٬ ولكن فهم أمهات الكتب يتطلب ترويضا على القراءة البطيئة المتأنية المؤلمة والمثمرة.
ومن الصعب تحديد هل المشكلة فى تراجع وتغير نوع العرض أم فى تغير طلب الجمهور مع تغير مزاجه وتشكيله أم فى وجود بديل. هل المشكلة فى غياب المثقف الكبير؟ أم فى حلول التليفزيون وشبكات الاتصال الاجتماعى محل الجرائد والكتب؟ هل المشكلة فى ظهور منافسين أقوياء من أمثال رجل الدين أو الصحفى الموهوب القادر على التبسيط رغم أن تبسيطه مُخلّ؟ هل المشكلة فى صعوبة الحياة فى عصر العولمة الجمهور يشاهد التليفزيون بعد يوم طويل ليسلى نفسه لا ليتعلم أو ليتلقى محاضرة، لا يرى غضاضة فى الاستماع إلى ما يفيده إن لم يكلفه هذا مجهودا كبيرا وإن لم يجبره ذلك على مراجعة جذرية لكل تصوراته.
تتعدد الاجتهادات وتشترك كلها فى إلقاءه الضوء على جانب من جوانب مشكلة بالغة التعقيد. فى المقالات التالية سأحاول مقارنة أوضاع الخبير والمثقف، فى محاولة منى لشرح أزمة الثانى وازدهار الأول.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
كالمثقف المؤدلج الذي يلتحف بعباءته الديني والماركسي والقومي. وكذلك المثقف الأكاديمي,والليبرالي، والتنويري، والاستعراضي، والوصولي، والشعبوي. ونحو ذلك من التصنيفات الأخرى التي تتعدى عشرين تصنيفًا.
«غرامشي» المثقفين إلى صنفين لا ثالث لهما هما «المثقف التقليدي» الذي يعيش في برج عاجي، ويرى نفسه أعلى من الآخرين. و»المثقف العضوي» الذي يحمل هموم كل الطبقات الاجتماعية، وخاصة الفقراء والمحرومين، مثقف يعيش هموم عصره، ويرتبط بقضايا أمته بشكل عضوي. ويرى «غرامشي» أن أي شخص لا يتحسس آلام مجتمعه لا يستحق أن يوصف بالمثقف. أما الفيلسوف الفرنسي « ميشيل فوكو 1926- 1984» فقد ميز بين «المثقف الخصوصي» الذي يوظف أفكاره المعرفية لتحقيق مصالح ذاتية وآنية. و»المثقف العمومي» الذي يمتلك نظرة ً شاملةً للمجتمع، ويشعر بأن وظيفته الرئيسة هي الدفاع عن الطبقات الضعيفة والمحرومة، وبناء مجتمع عادل تتساوى فيه الحقوق والمسؤوليات لجميع أفراده. وقد تجاوز «فوكو» تعريف «غرامشي» للمثقف العضوي، نحو أفق جديد، وعرف «المثقف» بأنه الشخص الذي يمثل ضمير المجتمع.
يُعَرِّف الفيلسوف الأمريكي الفلسطيني الأصل «إدوارد سعيد 1935-2003» «المثقف» بأنه هو الشخص الذي يسعى بكل جد واجتهاد على تصحيح المسارات المجتمعية الخاطئة
« إدوارد سعيد» «المثقفين» على فئتين، فئة «المثقف المحترف» وهو المثقـف الصنائعي الذي يجعل من ثقافته سلعة تباع وتشترى في سوق العمل. ومن هذه الفئة مثقفو القوى الاستعمارية المهيمنة على الميدان الاقتصادي والمؤثرة في الشأن السياسي، وحلفاء السلطات المالية ولوبيات السياسة أمثال « برنارد لويس». وفئة «المثقف الهاوي» صاحب الشغف الصادق، والذي لا يتخذ من معارفه – جمع معرفة – أدواتً للكسب المادي، بل يجعلها سبيلًا لدوره الإيجابي في المساهمة بتحسين أحوال مجتمعه وأمته، أمثال عالم اللسانيات وأكثر المفكرين تأثيرًا في العالم « نعومي تشومسكي»
القوى الرأسمالية العاتية مجندًا نفسه لفضح هذه القوى، وكشف خططها الاستعمارية المرسومة لغرض السيطرة على خيرات الدول ومقدرات الشعوب. وكذلك عالم «اللسانيات العربية» الجزائري المعاصر «الدكتور عبدالرحمن حاج صالح» صاحب نظرية «المدرسة الخليلية الحديثة» الذي حصل في عام 2010 على «جائزة الملك فيصل للدراسات». وعند هذه الفئة «فئة المثقف الهاوي» يتفق « إدوارد سعيد « مع «غرامشي». كما اتفق الفلاسفة الثلاثة (أنطونيو غرامشي، وميشيل فوكو، وإدوارد سعيد) على أن «المثقف الحقيقي» - وإن اختلفت التسميات بينهم - هو ذلك الشخص الذي يحمل بين جوانحه ضميرًا إنسانيًا حيًا، ويكتنز في أعماقه شعورًا عاليًا بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، ويمتلك في ذهنه بصيرة ثاقبة تميز الغث من السمين، وترى الأمور بألوانها الأصلية ولو اختلفت الأصباغ وتعددت الزخارف وكثرت النقوش. واضعًا بين حاجبيه القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة لا يتنازل عنها أبدًا، ولا يحيد عنها قيد أنملة.
كشخص شرقي يعيش في عصر الانفجار المعلوماتي العظيم أن أختتم مقالي هذا بثلاثة سياط أجلد بها ظهر ثقافتي المماحكة، والمترددة التي لم تحسم خيارها بعد لتغذ السير في طريق الحداثة والتجديد. فلعمري لو تحلل المثقف الشرقي من ثلاث عُقَد سوداء مشؤومة أفقدته مقعده في ركب الحضارة وأبقته رابضًا على الأرض لا يكاد يبرح مكانه، لفرد جناحيه وتمكن من الطيران والتحليق عاليًا في فضاء الفكر الإنساني الفسيح، تلك هي عقدة «الانحياز التأكيدي» الذي يجعل المثقف يميل دائمًا إلى المعلومة التي تؤكد قناعاته الراسخة، وتؤيد تصوراته المسبقة. وعقدة «الانتقائية» والكيل بمكيالين أو ثلاثة أو أربعة أو حتى أكثر. حيث تجد «المثقف» يؤيد قضية معينة برزت في موقع ما، ويعارض نفس القضية لأنها حدثت في موقع آخر. وعقدة «المخادعة» التي تجعل «المثقف» يتحدث أو يكتب ضد قناعاته الشخصية، وقد يصل لحد الكذب – والعياذ بالله - دون أن يتمعر وجهه خجلًا أو يلوم نفسه أسفا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق