الأربعاء، 9 فبراير 2022

فلسفة الجسد ****************

Dec 19, 2021

  هذا الدماغ الذي اكتشف القمر واخترع إمكانية النزول عليه لم يكن هو نفسه يعرف نفسه، وكيف للإنسان العاقل الذي وجد على الأرض قبل حوالي مائة وستون الف عام أن لا تصل إليه بعض من المعرفة الفسيولوجية عن جسده إلا قبل 300 عام وتفهمه لأسلوب نشاط مخه إلا في العشرين سنة الماضية؟

إذا ما كانت المعلومة العلمية عن الجسد بهذه الضحالة على امتداد التاريخ الإنساني فعن ماذا وكيف للفلاسفة أن يكتبوا عنه لمدة أكثر من ألفيتين.

الحقيقة وفي رأيي الخاص أن كلا من الفلاسفة والمتدينيين قد تبجحوا كثيراً في ادعاءاتهم بمعرفة الإنسان. ولذلك ومن هذا المنطلق سنتحدث عن الفلسفة بأفواه الفلاسفة على امتداد التاريخ ومن ثم ننتقل إلى النظر للنتائج العلمية الحديثة بالنسبة لاكتشاف الجسم ومن ثم الدماغ.

الجسد عند الفلاسفة
بغض النظر عن «ديمقراطيس» الذي تحدث عن أن الجسد هو مجموع ذرات وهو الأقرب للواقع المادي الذي وصلنا الى معرفته اليوم إلا أن الجدل الفلسفي الحقيقي بدأ مع «سقراط» وكان واضحاً جداً في محاورات «أفلاطون» و»فيدون» فهو يقول أن الطبيعة الإنسانية تشتمل على جزأين هما الجسد والنفس.

 الجسد انساني بينما النفس أكثر ما تكون شبيهاً للألهي! ورغم أنه شبه النفس باللألهي فقد قال أنها يمكن أن تتلوث هي نفسها بالجسد الذي سكنته وأنها يمكن أن تصبح مفتونة بالرغبات واللذات وعندها ستعاقب بأن تبقى تدور في القبور والأضرحة عقاباً لها.

الجسد هو مكان سكن النفس وإن كان لأفلاطون ذات المفهوم إلا أن أفلاطون بدل طبيعة الجسد فحوله من سكن إلى قبر.

يبالغ أفلاطون بوصف التناقض بين الجسم والنفس، ليشبه ذلك بالعربة المجنحة ذات الحصانين. ثم يغالي في ذم الجسد فيقول:
«وحيث أن الجسد قبر للنفس فالحياة إذن موت للنفس لذلك يجب أن تبحث عن الحياة الحقيقية عن طريق الموت».

لا يوافق آرسطو أستاذه افلاطون فبالنسبة له فإن النفس ليست عالية لتحل عشوائياً في أي جسم كان بل إنها كمال أول للجسم وهي لا يمكن أن تنفصل عن الجسم ذاته.

 «آرسطو» يقترب من علم اليوم حين يقول أن النفس هي فعل بالنسبة لمادة هي الجسم.

 نظرة عامة على التاريخ الفلسفي للجسم والنفس فاننا نلاحظ ان كفة الجسد ترجح شيئاً فشيئاً مقابل النفس او بعبارة أصح ان الفهم المادي للعلاقة الجسمية النفسية يزداد رسوخاً مقارنة بالفهم الغيبي لها.

 القناعة الدينية وخصوصاً لدى المسيحية والاسلام عن كل من الجسد والنفس وخصوصاً اننا بدأنا بسقراط الذي كان متأثراً بالفكر الفيثاغوري الاقرب الى الديانة.

كل من الديانتين يقتربان من المفهوم الثنائي للنفس والجسد.

في المسيحية الجسد آثم ومذنب فحتى العلاقة الجنسية الزوجية يجب ألا تحدث في المسيحية إلا بهدف الإنجاب، ليس هذا فقط فالقديس «أوغوستين» ينادي بجنسية دون انفعال ودون متعة. و»كليمن الاسكندراني» يدعو إلى أن يمتنع المرء عن الرغبة والوصايا العشر لا تشجب الزنا فقط بل تمنع الاشتهاء «لا تشتهي امرأة جارك»، في حين ان الإسلام لا ينكر حق الجسد «ولجسدك عليك حق»، فالإسلام لا يمنع المتعة وإنما يطالب بتنظيمها دينياً.

لم تتأثرالفلسفة الأوروبية بالنظرة الإسلامية للجسد وبقيت تتبع أقوال أغسطين الذي كان يحاول بمسيحيته التصدي للدائرة الفسيولوجية في قمة ضغطها العالي أي في قمة رغبتها وهي بمثابة أكبر تصعيد ديني في مواجهة عصبوية الجسد.

واصل «ديكارت» نفس الأفكار الأفلاطونية بمعنى أن النفس والجسم هما جوهران متمايزان وظيفتهما الأساسيتان هما الفكر والامتداد وتحظى النفس بمزية تزويد الوجود الإنساني أما الجسم فإنه يختزل إلى مادية امتداده.

«يُؤلِّل» ديكارت الجسد (اي يعمله آلة) فيعتبر الوظائف الجسمية مثل (الهضم، والتحرك، والتنفس) أنها تنجم عن آلية تنبع من إرادة الله التي جعلها الله ذاتية الحركة وشبهها بحركة الساعة.

 كيف للنفس والجسم اللذان هما جوهران متمايزان ... أن يتبادلا التأثير وأن يكونا مرتبطين بدقة ويؤثر أحدهما على الآخر. الغريب أن يعترف «ديكارت» برسالة موجهة إلى الأميرة إليزابيث بصعوبة تصور هذا الاتحاد.

تطور ممارسات التشريح الجسدي والتي حضر ديكارت بنفسه . فتوى خطيرة في علم الأعصاب حيث يقرر أن النفس تمارس وظائفها عبر الغدة الصنوبرية في المخ!! لماذا اختار هذه الغدة بالذات؟ وبدون تجارب أو أي إشارة بيولوجية! لا أدري!!

يقول (سأغمض عيني وسأصم أذني وسأصرف كل حواسي فأنا شيء يفكر) .. ولو أطعنا ديكارت لظهر لدينا كثيرون مثل «جيني» الطفلة الأمريكية البائسة التي تم عزلها 12 سنة بعد الولادة في غرفة منفردة دون أن تستمع إلى أي خطاب بشري، فكانت النتيجة فقدانها القدرة على الكلام ليس ذلك فقط بل وفشل كل الجهود لإعادة تعليمها وذلك لأن شبكة الأعصاب تتوقف عن النمو إذا لم تحرض هذه الاعصاب (بصرية ام سمعية ام جلديه ام كلامية) من قبل المحيط الخارجي.

«فرويد» يجيب أنه لا يفكر أثناء النوم بل يحلم، و»جاك لاكان» المحلل النفسي الفرنسي يجيب مؤيدي ديكارت فيقول: (حيث أن الوعي لا يشكل إلا قطرة من اللاوعي فأنا أفكر حيث لا أوجد وأوجد حيث لا أفكر وأنا لا أوجد حيث أكون لعبة تفكيري بل إنني أوجد حيث أكون لعبة في يدي لاشعوري).

«سبينوزا» بقي يفكر مثل ديكارت بأن الإنسان يتكون من جسم ونفس إلا أنه لم يجعل من الجسم والنفس جوهرين مختلفين وإنما وضعهما كصفتين في جوهر واحد. أي أنهما تعبيران متمايزان لجوهر واحد فكل ما يجري في الاول يكون له ما يماثله في الآخر أي أن كل ما يحصل في الجسم  له ما يطابقه في النفس – حالة مادية ما في المعدة على سبيل المثال يعبر عنها في الفكر بشعور الجوع.

الطب الحديث

هذه المراقبة لا تتناسب مع فرضية «كانط» بالعقل القَبْلي بل توحي لك مباشرة وتعيدك إلى «جون لوك» في مناداته بنظرية الصفحة البيضاء للعقل الإنساني والمتأثر من قبله بـ «آرسطو» و»الإكويني» و»بيكون» حيث يعمل العقل طوال وقته على تعبئة هذه الصفحة كما رأينا في موجات الرنين المغناطيسي.

نظرنا إلى المخ كحراك مادي غاية في الضخامة (مليارات العصبونات المرسلة والمستقبلة للمعلومات) إضافة إلى حراك دموي داخل الشرايين لتغذية هذه الخلايا فإننا نستطيع أن نراقب صراعات المادة ضد المادة فإذا ما انفجر أحد الشرايين في القشرة الرمادية المخية غاب الإنسان عن وعيه وفي حال تأثر مركز النطق بقي الإنسان يفهم ما يحكى له ولكن لا يستطيع التحدث وإذا تضرر مركز التكلم الثاني لن يفهم المريض الأشخاص حوله ولكنه سيتحدث بطلاقة ولكن ليس كلاماً واضحاً مترابطاً بل أحرف غير ذات معنى وأما إذا انفجر شريان آخر في قاع المخ فإن الدم المتدفق سيضغط على مركز القلب ليوقفه عن الحركة.

تطرف «لايبنتس» حتى وصل إلى نظريته المسماة بـ «المونادولوجي» فاعتبر كل ذرات الجسم هي ذرات روحية أي أنه تجرأ إلى حد روحنة المادة، وعلى العكس منه كان «لامتري» الذي لم يعترف إلا بجوهر المادة وكان يقول إن النفس كلمة باطلة وفي نظره كانت النفس ما هي إلى إشارة إلى العضو الذي يتيح لنا التفكير. وقد أطلق تعبير «الإنسان الآلة» (وليس الجسد الآلة كما أرادها ديكارت) فشيأ كل روح أو «مودها» أي جعلها مادة حتى أن «بليخانوف» قال ذات مرة أن «لامتري» يفزع أكثر الماديين جرأة مع أن «إنجلز» كان أيضاً جريئاً في عصره حين قال ليست المادة نتاجاً للروح بل إن الروح ليست هي ذاتها إلى النتاج الأرقى للمادة.

كان «نيتشه» هو الأكثر وضوحاً بعد «لامتري» في انحيازه للجسم معترفاً به كفاعل وليس متلقياً فقط فيقول: الإيمان بالجسم هو الأشد رسوخاً من الإيمان بالنفس.

هناك عمل كثير ينتظر الجسد لكنه من الضروري لتسهيل الحكم على ما سبق من آراء أن أذكر لكم بعضاً من نتائج الأبحاث المذهلة للنظام العصبوي في الجسد فالثورة العلمية الدماغية في هذا القرن تشبه الثورة الفلكية قبل أربعمائة عام.

الثورة الدماغية العصبونية

حتى وقت قصير قبل ابقراط  «أبو الطب» كان الإنسان يعتقد أن الأمراض العقلية تحدث نتيجة اضطراب عصارات الإنسان الأربعة المفترض وجودها خيالياً دون العلم أين تفرز هذه العصارات.

كذلك فإن تشخيص الجنون الأول كان يطلق عليه اسم «هيستيريا» وهي الكلمة التي نستخدمها حتى الآن في وصف الإنسان المضطرب عقلياً. والهيستيريا تأتي من كلمة «هيستر» باللغات القديمة ومعناها الرحم، وقد كانوا يظنون أن الرحم يرتفع قليلاً  فيسبب الهسترة أو الجنون، وكانوا يعالجونه بأنواع من البخور توضع أمام الأعضاء التناسلية الأنثوية لتجتذب الرحم إلى أسفل أي لإرجاعه إلى مكانه الأصلي.

استكشاف «أن الدماغ هو مصدر الفكر» بمثابة تقدم بيولوجي كبير في ذلك الوقت، إلا أن الدماغ بقي عضواً هاماً بلا معرفة تفاصيله وجغرافيته ولغاية القرن الماضي حين كان فرويد يتحدث عن «الهذا» و»الأنا» و»الأنا الأعلى» إضافة إلى الأحلام وعقدة «أوديب» كان ينظر إلى الدماغ نظرة وهمية عامة، ولذلك فقد أسقطت الأبحاث والاكتشافات الجديدة لعمل الدماغ وتفاصيل علاقات مراكزه العديدة كثيراُ من مقولات فرويد.

تنحى النموذج التحليلي لصالح النموذج البيولوجي في علاج الأمراض العقلية وكان «كريبلين» هو المنادي الأول ببيولوجية الأمراض العقلية إذ كان يشبه ذلك بالتغيرات الفسيولوجية في أعضاء الجسم الأخرى فكان يقول: أنه كما أن شرايين القلب قد تؤدي إلى الجلطة وإن ضعف عضلات القلب قد تضعفه فإن أي تغيرات في خلايا الدماغ ستكون سبباً في أمراضه.

أننا اليوم ننظر إلى الدماغ على أنه جهاز عصبوي يتكون من مليارات الخلايا وهذه الخلايا تتصل ببعضها البعض لتكون مراكز متخصصة وهذه المراكز تحتوي على مليارات الأسلاك العصبية المتصلة بعضها ببعض والتي تحتوي على مواد كيميائية موصلة للإشارات العصبية لذلك فإن أي تغيير في صحة هذه المنظومة يؤول إلى خلل في النفس بمعنى آخر إن أغلب التغييرات النفسية تستطيع أن ترجع بها إلى تغييرات فسيولوجية لأنسجة المخ.

نعود بالضرورة إلى المفكر المذكور سالفاً «لامتري» الذي قال قبل ثلاثمائة سنة تقريباً أن النفس هي المادة.

صعوبة الاستيعاب كانت بسبب النظرة الميتافيزيقية للذكاء والجنون أو النظرة المجردة،

مأساة «ديوجين الكلبي» وكل الديوجينات من بعده ذلك ديوجين الذي كان يستنمي في ساحات أثينا أمام الجميع ويؤكد أن ما يحتاجه الإنسان او ما يحتاجه الجسد يجب أن يحصل عليه مثل المأكل والمشرب ولا شك أنه حسب فلسفة سقراط فلا بد ان نفس ديوجين قد تلوثت بجسده ولن تجد هذه النفس بداً من أن تتعذب وكذلك فإن ديوجينات القرون اللاحقة ستعاقب لأنها أظهرت عورتها أمام الناس. أما ديوجينات اليوم فقد تبين في الدراسات العصبية أنها تعاني من تلف في خلايا الفص الأمامي للقشرة الرمادية المخية تسبب لامبالاة لصاحب هذا الدماغ ومنها لامبالاة الاستنماء في الأماكن العامة وبذلك تكون شبكة أعصابه هي المذنبة ولا أحد غيرها.

صنعت المادة الدوائية التي تعالج المادة التالفة ليعود ديوجين ويخضع للأنا الأعلى وليستنمي بسعادة في غرفة نومه هارباً من عذابات المجتمع وعذابات الآخرة.

 الثورة الدماغية التي انطلقت في النصف الثاني من القرن الماضي ليكون القرن الحالي هو قرن الجسد عامة والدماغ خاصة حتى أن المثقف الأوروبي الذي يريد استعراض ثقافته اليوم عليه أن لا ينسى أن يستخدم أسماء مراكز المخ بدلاً من «الهذا» و»الأنا» و»الأنا الأعلى» التي سادت في التشبيح الثقافي في أوائل القرن الماضي.

محاولة العودة إلى ميتافيزيقيا الجسد
بعد تحطم الأسطورة الثنائية نتيجة الثورة العصبوية في المجتمعات المتقدمة يحاول الميتافيزيقيون في تلك المجتمعات الهروب من تلك الثنائية إلى ما يطلقون عليه الثلاثية الجديدة وهي تركيبة تتكون من الجسم الطبيعي للجسد بالإضافة للتداخلات الاصطناعية فيه وثالثاً النفس، وقد أطلقت «دونا هواري» على التزاوج بين الجسم الطبيعي والمواد المصنعة (الأطراف الصناعية، اللوالب، شبكات القلب ...ألخ) اسم cyborg واعتبرت أن ثلاثية الجسد الجديد هو بمثابة إعادة كتابة النص الجديد للجسد والذي تحدث عنه «فوكو» والذي لم يرَ فيه الجسم إلا نصاً كتبته الثقافة، ثم انتقل آخرون من الثلاثية إلى الرباعية حيث أضافوا الفضاء الرقمي إلى النفس cyberspace وقد ترجمها بعض الكتاب العرب بـ «السبرائية»، فالسبرائية تكون روح رقمية جديدة ثم يلغى معها الجسد اعتباطاً كما يحصل بالـ chatting، فأنت لا ترى جسد الآخر ولا تسمعه ولا تلمسه ولا تتابع انطباعات وجهه، وبذلك وحسب رأيهم فإنك تتعامل مع روح بلا جسد.

أصبح لدينا جنس بلا حبل وبعد حوالي عشرين عاماً أنجزت الثورة المكملة لنفس العضو فأصبح بالإمكان استخدام نفس العضو بالإنجاب بدون ممارسة الجنس إنها طريقة أطفال الأنابيب .

فهل هذا التقدم الطبي بريء؟؟
أم أنه استخدام لـلـ»cyborg» لتنظيم فوضى وظائف الأعضاء الجسدية التي قد لا يكون الجسد بدونها قادراً على الحصول على شهادة الآيزو البشرية.

*



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق