Feb 7, 2020
كتاب د.علي الدين هلال “الانتقال إلى الديمقراطية.. ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين؟”
طبيعة العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، وأساس الطاعة السياسية أو الالتزام السياسي، والتوازن الضروري والمطلوب بين الحرية والسلطة، وبين الحق والواجب، والعلاقة بين الدولة والقوى الاجتماعية، ومدى تعبير الأول باعتبارها شكلا مؤسسيا وقانونيا عن المجتمع. باختصار، إن البحث في موضوع الديمقراطية هو بحث في الشرعية: شرعية الدولة وشرعية النظم السياسية والاجتماعية.
ما يزيد على ربع قرن من ثورات الديمقراطية العالمية، والتي تردد صداها وانتقلت تأثيراتها في كل أنحاء المعمورة، ففي كل مكان من قارات العالم ازدادت المطالبة بتحقيق المشاركة والكرامة والمساواة والعدالة، وهي القيم الأثيرة لدى فلاسفة الديمقراطية. ولم تقتصر هذه المطالبات على المجتمعات التي خضعت لنظم سلطوية، بل امتدت إلى قلب عواصم دول الديمقراطيات المستقرة ومدنها الكبرى، ففي أكتوبر 2011، وتحت تأثير شعار “احتلوا وول ستريت” انطلقت المظاهرات في قرابة ألف مدينة في 85 دولة، رفعت شعارات ضرورة كسر احتكار النخب وجماعات المصالح المنظمة للنفوذ السياسي، وإعادة السلطة إلى الشعب. فالدول السلطوية التي سادتها نظم الحزب الواحد أو سيطر عليها العسكريون شهدت الانتقال إلى الديمقراطية، أو الانتقال الديمقراطي، أما الدول الديمقراطية الراسخة فقد شهدت الدعوة إلى مراجعة الممارسات السياسية وأداء مؤسسات الحكم بهدف جعلها أكثر قربا إلى الإنسان العادي وأكثر تعبيرا عن مصالحه، وقد أدى هذان التطوران إلى انتعاش البحث في مفهوم الديمقراطية وما يرتبط بها من قيم وعلاقات وترتيبات مؤسسية.
الديمقراطية علاج لكل الأمراض والعلل الاجتماعية، وأن النظام الديمقراطي هو البلسم الشافي لحالة التخلف بكل ما فيها من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. غير أن الحقيقة خلاف ذلك، فالديمقراطية مجموعة قيم ومؤسسات تتأثر بسياق المجتمع الذي تنشأ فيه، فشتان بين أداء المؤسسات الديمقراطية (أحزاب، برلمان، انتخابات، حكومة…) في دول الديمقراطيات الراسخة ونظائر هذه المؤسسات في الكثير من الدول الأفريقية والآسيوية وفي أميركا اللاتينية. ففي هذه الدول حملت المؤسسات الديمقراطية سمات مجتمعات كالفقر المدقع، وشيوع الأمية، وغلبة الانتماءات الإثنية، وممارسات الزبانية السياسية على قيم المواطنة والانتماء الوطني. ومن ثم يتعين على الباحث في موضوع الانتقال إلى الديمقراطية إدراك أنها عملية طويلة الأجل، ومعقدة، وديناميكية، ومفتوحة النهايات، وأن عليه الأخذ بعين الاعتبار اختلاف البيئة التي تتشكل فيها مضامين القيم الديمقراطية والأشكال التنظيمية التي تتخذها.
الاتحاد البرلماني الدولي في العام 1997، تحت اسم “الإعلان العالمي للديمقراطية” والذي أشار في الجزء الخاص بمقومات الحكم الديمقراطي إلى حق كل فرد في المشاركة في إدارة الشؤون العامة في بلده، وتعزيز التعددية السياسية والحزبية، وآليات الرقابة المستقلة والمحايدة والفعالة التي تكفل حكم القانون وتضمن الشفافية والمحاسبية، إضافة إلى دور هيئات المجتمع المدني ووسائل الإعلام الحرة في تهيئة البيئة المناسبة للممارسة.
الانتقال إلى الديمقراطية في الكثير من البلاد لم يحقق كل النتائج أو الآمال التي دارت بخلد المدافعين عن هذا الانتقال.
تواجه النظم الديمقراطية وخصوصا الديمقراطيات الجديدة أربعة تحديات أساسية: أولها تحدي الحافظ على الإجماع العام بين الفاعلين السياسيين على قواعد العملية الديمقراطية في مواجهة النزاعات العرقية والسلالية، والأصوليات الدينية التي تتعامل مع الآخرين بمنهج الإقصاء والتهميش واستخدامها الأسلوب الديمقراطي لتحقيق أهداف غير ديمقراطية. ويرتبط بذلك تحدي تصاعد الاتجاهات اليمينية والشعبوية، والتي حققت مكاسب انتخابية في عدد من دول الديمقراطية المستقرة في أوروبا.
وثانيها تحدي غياب العدالة وتكافؤ الفرص الناشئة عن ديناميات النظام الرأسمالي، واستمرار تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في داخل كل دولة، وبين الدول الغنية والدول الفقيرة.
وثالثها تحدي التكيف مع الصعود الاقتصادي الآسيوي -وفي قلبه الصين- وذلك بسبب اختلاف القيم الآسيوية عن بعض الثقافة الديمقراطية في الدول الغربية مثل تركيزها على الجماعة وليس الفرد، واهتمامها بالتوافق والإجماع أكثر من الجدل والاختلاف، وحرصها على التضامن الجماعي أكثر من الحرية الفردية.
ورابعها ازدياد دور القادة الأفراد في العملية السياسية، وظهور نموذج “الرجل القوي” القادر على كسب تأييد أصوات الناخبين في كل من نظم الديمقراطيات الجديدة وتلك الراسخة على حد سواء.
*
والمباشر وغير المباشر
حكم العوام الأقل علماً وتعليماً وتأثراً بالقيادات الشعبوية.
استشفاف مصالح الأمة استشفافاً صحيحاً من خلال تمثيلها في مجالس ومؤسسات تجري فيها عمليات للتداول في الرأي والتدبر في اتخاذ القرارات حتى يصل الجميع إلى أفضل الخطوات التي تحافظ على الدولة من ناحية، والأخذ بيدها نحو الرخاء والرفعة من ناحية أخرى. وتاريخياً، فإن تبني كلا المفهومين امتزج مع مفاهيم أخرى منها الليبرالية والرأسمالية حتى بات المفهومان ممثلين للصيغة السياسية لحزمة من المفاهيم التي تؤكد على الحرية للإنسان، والفردية للسلوك، ومجموعة من القيم التي ترقى إلى مرتبة «الحقوق» الأبدية للمواطن.
وفي تسعينات القرن الماضي أعلن فرنسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، حيث لم يعد هناك نظام آخر يستحق النضال ضده؛ وتدافعت دول أوروبا الشرقية، ومعها ومن بعدها تدافعت دول أخرى حتى بات عدد الدول «الديمقراطية» في العالم يفوق الدول «غير الديمقراطية». باتت الحالة نوعاً من «العولمة» السياسية والفكرية والقيمية، فضلاً عن الاقتصادية، التي تقودها دول ديمقراطية. والآن، بعد عقدين من بداية القرن الواحد والعشرين لم تعد كما كانت في أول القرن الجديد، فقد انعكست الآية وفقاً للتصنيف المذكور لدول العالم ما بين الديمقراطية وأشكال مختلفة من «السلطوية» التي قيل عنها أحياناً إنها ديكتاتورية أو أوتوقراطية أو أوليجاركية.
خلال العقدين الماضيين في العالم عامة، وفي الدول «الديمقراطية» خاصة حيث قادت «العولمة» إلى خلق حالة من الاغتراب القيمي والاقتصادي والسكاني داخل الدول مما خلق دفعات من رد الفعل الذي تنكمش فيها الشعوب حول هويّاتها الخاصة، وتنظر بشك وريبة في الهويات الأخرى. ولم تكن ظاهرة «ترمب» و«الترمبية» خاصة بالولايات المتحدة وحدها، وإنما شائعة بشكل كبير في الدول الديمقراطية الأخرى أوروبية وغير أوروبية، إن لم يكن في الحكم فقد كانت في المعارضة. ومن الجائز أن نعود بهذا التحول إلى أن الدول الديمقراطية رغم إنجازاتها الكبيرة تكنولوجياً واقتصادياً، فإنها في الوقت نفسه لم تنجح في اختبار قرارات سياسية واستراتيجية ما لبثت أن بدأت عمليات التقويض للنظام الديمقراطي كله.
*
Apr 17, 2021
لماذا الديمقراطية؟
اشتبك الديمقراطيون مع أنصار الاستبداد حول جدلية "شرعية الإنجاز". الصين هي النموذج المعاصر الأشهر، كما يروّج تقديم نماذج "المستبد المستنير" وعادة يضرب المثل بأتاتورك في تركيا، وبورقيبة في الجزائر، وجمال عبد الناصر في مصر.
الإشكال هنا أن ديمقراطيين كثيرين قد انجرفوا إلى ملعب خصومهم. في الواقع لم تنشأ الديمقراطية كإجابة عن سؤال الإنجاز، ولا حتى عن سؤال العدالة بالمعنى الفلسفي. لقد حققت حضارات قديمة "إنجازات" مبهرة من دون ديمقراطية، وحين بنى المصريون القدماء الأهرامات لم يكن حاكمهم منتخباً بل كان إلهاً أبدياً!
الركيزة الأولى لنشأة الديمقراطية كانت سؤال حماية الأفراد بالمعنى المادي البحت. كانت "الماغنا كارتا"، أو الوثيقة العظمى، بذرة الديمقراطية الحديثة، حين تم إقرارها في عام 1215
ولم يظهر حق الاقتراع العام إلا بالثورة الفرنسية في 1793. وبالعودة إلى التاريخ، شهدت مصر الفرعونية أول إضراب عمالي في التاريخ عام 1152 قبل الميلاد، كما شهدت بدورها ثورات وانتفاضات.
في بلادنا المعاصرة تحديداً، لدينا من الأسباب ما يكفي ويفيض. لقد كانت شرارة الربيع العربي صفعة من شرطية لبائع في تونس، أو شاب من الطبقة الوسطى ليس له أي علاقة بالسياسة مات تحت التعذيب في مصر.
ركيزة أخرى لنشأة الديمقراطية هي سؤال النجاة من أهواء الحكم الفردي. من الوارد أن تدفع المصادفة بأفضل حاكم، لكن الدول تحتاج آلية مستقرّة للحماية من احتمالات وصول حاكم مجنون أو فاسد، خصوصا أنه من يمتلك أسباب القوة القاهرة، مثل الجيش.
كما يأتي سؤال "الإنجاز"، وهنا نقول إنه بالفعل ثمّة نماذج لأنظمة ديمقراطية فاشلة، وأنظمة استبدادية ناجحة، لكن الأغلب بالأرقام هي أن الدول الديمقراطية أنجح. نسعى إلى القاعدة لا الاستثناء. كما أنّ ثمّة نماذج لنجاحات مبهرة حقّقها حكام مستبدّون، لكن الاستبداد الذي أنجز هو نفسه من أضاع إنجازه. هكذا فعل هتلر وموسوليني وإمبراطور اليابان هيروهيتو وغيرهم.
على جانب ثانٍ، من المهم التشديد على أن "الإنجاز" المستقر يرتبط بأنظمةٍ استبداديةٍ لديها ما قد نسميها "سلطوية سياسية"، بمعنى وجود مؤسسات وآليات رقابية داخلية، وليس حاكماً فرداً مطلقاً. يمكن قول هذا على الصين المعاصرة التي شهدت أوج فشلها ووفاة الملايين جوعاً في عهد الحاكم الفردي ماو، بينما تشهد نجاحها وهي تشهد انتخابات نزيهة بين نحو 90 مليون عضو في الحزب الشيوعي الحاكم، وتم تجريد الجيش من أدواره الاقتصادية. حدث سيناريو شبيه في الاتحاد السوفييتي بعد وفاة ستالين، إذ كان حكمه الدموي دافعاً لتطوير آليات مؤسسية بالحزب الشيوعي أقرب للحكم الجماعي.
فليكن الحاكم مُنجزاً أو غير منجز، ولنقيم ذلك بالأرقام من دون انحيازات، وهذا لن يغيّر من معاناة مسجون ظلماً لأسباب سياسية أو غير سياسية، أو من مأساة أسرةٍ فقدت عائلها بسبب مشادّة مع ضابط شرطة.
الديمقراطية تحمي حياتنا وأموالنا أولاً.
فشل المؤسسات الديمقراطية ومحاولة الدول الديمقراطية تجاوز هذه الأزمة من خلال شرعية الإنجاز.
الشعبوية الناتجة عن التكنولوجيا الجديدة هي أخطر ما تواجه الديمقراطيات من تحدٍّ، وهي تحدٍّ آخر أيضاً للأنظمة المغلقة، فالتكنوشعبيوية هي تحالف ما بين القديم المتخلف وما بعد الحديث الذي يساعد على نشر التخلف بطريقة أسرع مما عرفته البشرية من قبل.
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق